هان كانج: فلسفة الكتابة بوصفها أسئلة لا إجابات
تُغذِّي كتابتي أشياءً كثيرةً، مثل ما أراهُ وأسمعهُ وأشمهُ وألمسهُ وأتذوقهُ، وأيضًا أحلامي، وأحيانًا كوابيسي وأحلام اليقظة. بالإضافةِ إلى ذكرياتي الخاصَّة، رغم أنَّها لا تظهر مباشرةً في أعمالي الأدبية. لكن الأهم من كل ذلك أنَّ، الأسئلة الجوهريَّةِ التي تُؤرقني دائمًا، والنضال الداخليِّ المستمرِّ، وإيقاعات الحياةِ اليوميَّةِ، هي التي تدفعني دائمًا للاستمرار في الكتابة. عندما أكتبُ، أستخدمُ جسدي، وأستعينُ بكل التفاصيل الحسيَّةِ كالرُّؤيةِ، والاستماع والشم والتَّذوق والإحساس بالدِّفءِ والحنان والبرد والألم. ألاحظ تسارُع نبضات قلبي، واحتياج جسدي للطَّعامِ والماءِ. أستشعر خطواتي في المشي والجري، وأحسُّ الرياح والمطر والثَّلج على بشرتي، وأشعرُ بلمسةِ الأيدي.
لا أعتقدُ أنَّني أكتبُ جملًا شعريَّةً بشكلٍ صريحٍ، ولكن الشِّعر يكمنُ في كل مشهدٍ أصفهُ. إنَّهُ حاضرٌ في كل من الرِّواياتِ والقصصِ القصيرةِ على حدٍّ سَّواء.
في كل مرَّةٍ أعملُ على روايةٍ، أعيشُ مع الأسئلة وأتعمَّقُ فيها، فالوصولِ إلى نهايةِ هذه الأسئلة – وهو أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن إيجادِ إجابات لها – هو ما يُحدِّدُ نهاية عمليَّة الكتابة بالنسبة إليَّ، وعندها، أجدُ نفسي قد تغيرتُ عما كنت عليه في البدايةِ، ومن هذه الحالة الجديدةِ أبدأُ من جديدٍ. تأتي الأسئلةِ التَّالية، كحلقاتٍ في سلسلةٍ أو كقطعِ دومينو مُتداخلةٍ ومُتصلةٍ ومُمتدَّةٍ، فتدفعني لكتابةِ شيءٍ جديدٍ.
كما أنَّ الرُّواية مساحةٌ مُغلقةٌ، حيث يُشكِّلُ كل كتابٍ وكل عملٍ وحدةٍ من الزَّمانِ والمكان، لكنَّني فكَّرتُ أيضًا أنَّ رواية الأستاذ كانت بمنزلةِ 'مساحة خطيَّة' مُترابطة، وأتساءلُ إن كانت هناك العديد من اللحظاتِ التي تتداخلُ فيها ترحيباتِ وأصواتِ الرِّواياتِ القديمةِ عند الدُّخول إلى الرِّواية."
لكن عندما تشعرُ أنَّك وصلتُ إلى نهاية السُّؤال، يجب أن تنتقلُ إلى السُّؤال التَّالي، بدلاً من العُثورِ على الإجابة ، فرواية ''النَّباتيَّة'' امتدادٍ لرِّواية ''ثمرةُ امرأتي''، لكن عادةً عندما أكتبُ روايةً جديدةً، لا أضعُ الرِّواية القديمةِ في ذهني. تكتشفُ أحيانًا وجود صلة بين روايتك الجديدة والقديمة بعد الانتهاء من الكتابة. على سبيل المثال، فبعد أن انتهيتُ من كتابة ''لا أقول وداعًا''، أدركتُ أنَّ هناك صلة تربطها بروايتي الأولى ''الغزالُ الأسودُ''، لكنَّني خلال العشرين عامًا تقريبًا بين الرُّوايتين، تغيرتُ كثيرًا كشخصٍ طبيعيٍّ، وهذا ينطبقُ أيضًا على الرُّوايات، لكن هناك أشياء لم تتغير، واعتقدت أنها ربما تعودُ إلى جوهري الأساسيِّ.
فبالنسبةِ إليَّ، الروايات هي شيءٌ يستمرُّ، ليس استمرارًا في القصَّةِ بحدِّ ذاتها، بل استمرارًا للأسئلةِ. في كل لحظةٍ هناك سؤال يشغلني، وأكتبُ الرُّواية بطريقةٍ تدفعُ هذا السُّؤال إلى الأمام. التَّفكيرُ والتردُّدُ والتَّأمُّلُ وطرحُ الأسئلةِ والالتفافُ ثم العودةُ، ما زلت أشعرُ أنَّ هذا هو ما يعنيهُ كتابة رواية. هكذا تكتبُ بطريقةِ تتعاملُ مع الأسئلة."
ثمَّ أنَّ الكتب التي أقرؤها قبل أو أثناء كتابتي لعملٍ جديدٍ ليس بينها أي قاسمٍ مشتركٍ تقريبًا، فأنا لا أختارُ الكتب بناءً على فائدتها المحتملة لكتابتي، وإنما أقرأ ما يروق لي. في المساء، عندما أكون مرهقةً جدًا، ولا أستطيعُ التركيز على الكتابةِ، وعندما أرغبُ أيضًا في قضاء ليلةٍ هادئةٍ بعيدًا عن الألعاب الناريَّةِ التي تُفجِّرها الكتابة داخلي، وعندما أُريدُ أن أعودُ في صباحِ اليوم التَّالي إلى الكتابة من حيث توقفت، أقرأ الكتب التي كتبها الآخرون.
مقتطع من مقالٍ مطوَّل من ترجمتي عن الكتابة للروائية الكورية ''هان كانج''، الحائزة على جائزة نوبل في الآداب عام (٢٠٢٤)
